الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)}.وهذه لمن أتى الله بقلب غير سليم، قلب خالطه شرك أو نفاق أو رياء، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71].والورود لا يعني دخول النار، إنما رؤيتها والمرور بها؛ لأن الصراط مضروب على مَتْن جهنم، فالورود شيء والدخول شيء آخر، ومن ذلك قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ} [القصص: 23] مع أن موسى عليه السلام ورد الماء يعني: مكان الماء، ولم يشرب منه.والحكمة من ورود النار بهذا المعنى أنْ يعرف المؤمن فَضْل الإيمان عليه، وأنه سبب نجاته من هذه النار التي يراها، وهذه أعظم نعمة عليه؛ لذلك يقول سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].ومعنى {لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] جمع غَاوٍ، وهو إما أنْ يكون غاويًا في نفسه، أو أغوى غيره، فتطلق على الغاوي، وعلى الذي يُغوِي غيره.{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)}.قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 92] أرونا مَنْ أشركتموهم مع الله، أين هم الآن؟وفي موضع آخر: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 22- 25].لقد ضلوا عنكم، وتركوكم، بل وتبرأوا منكم: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166].ثم ياتي الذين اتبعوا فيقولون: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29].نعم، إنها معركة؛ لأن الله تعالى قال: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].وقوله تعالى: {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} [الشعراء: 93] يعني: لا يستطيعون نصركم، أو الدفاع عنكم، ولا حتى نَصْر أنفسهم، فإنْ كان نصرهم لأنفسهم ممنوعًا فلغيرهم من باب أَوْلَى، ففي الآية تقريع لهم ولمن عبدوهم من دون الله، وتحقير لشأنهم.ثم يقول الحق سبحانه: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ} الفعل كَبْكب، يعني: كبّوا مرة بعد أخرى على وجوههم، فهي تعني تكرار الكَبِّ، فكلما قام كُبَّ على وجهه مرة أخرى، وهي على وزن فعللة الدال على التكرار كما تقول: زقزقة العصافير، ونقنقة الضفادع. والمراد هنا الأصنام تكبّ على وجوهها، وتسبق مَنْ عبدها إلى النار، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98].وقال: {هُمْ والغاوون} [الشعراء: 94] فالغاوون يسبقون مَنْ أغْوَوْهم وأضلوهم؛ ليقطع أمل التابعين لهم في النجاة، فلو دخل التابعون أولًا لقالوا: سيأتي منْ عبدناهم لينقذونا، لكن يجدونهم أمامهم قد سبقوهم، كما قال تعالى عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98].{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)}.ولإبليس جنودٌ من الجن، وجنود من الإنس، سيجتمعون جمعيًا في النار.{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)}.هذه لقطة من ساحة القيامة، حيث يختصم أهل الضلال مع مَنْ أضلوهم، ويُلْقِي كل منهم بالتبعة على الآخر.وهذه الخصومة وردتْ في قوله تعالى على لسان الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] والمعنى: لم يكُنْ لي عليكم سلطانُ قَهْر أحملكم به على طاعتي، ولا سلطان حجة أقنعكم به.ثم يعترف أهل الضلال بضلالهم ويقسمون {تالله} [الشعراء: 97] يعني: والله {إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الشعراء: 97] يعني: ظاهر ومحيط بنا من كل ناحية، فأين كانت عقولنا {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} [الشعراء: 98] أي: في الحب، وفي الطاعة، وفي العبادة.كما قال سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [البقرة: 165].{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)}.يعني: يا رب أرنا هؤلاء المجرمين، ومَكِنّا منهم لننتقم لأنفسنا، ونجعلهم تحت أقدامنا، وهكذا أخرجوا كل سُمِّهم في هؤلاء المجرمين، وألقوا عليهم بتبعة ما هم فيه.{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)}.الشافع من الشَّفْع أي: الاثنين، والشافع هو الذي يضمُّ صوته إلى صوتك في أمر لا تستطيع أن تناله بذاتك، فيتوسط لك عند مَنْ لديه هذا الأمر، والشفاعة في الآخرة لا تكون إلا لمن أَذِن الله له، يقول تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28].ويقول سبحانه: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].إذن: ليس كل أحد صالحًا للشفاعة مُعدًا لها، وكذلك في الشفاعة في الدنيا فلا يشفع لك إلا صاحب منزلة ومكانة، وله عند الناس أيَادٍ تحملهم على احترامه وقبول وساطته، فهي شفاعة مدفوعة الثمن، فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له.لذلك نرى في الريف مثلًا رجلًا له جاه ومنزلة بين الناس، فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم، فحين يتدخّل بين خصميْن ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته.ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه، ومعلوم أن الشركة تحتاج إلى مال أو عمل، لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ولا يستطيع العمل، لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس، فنأخذه شريكًا معنا بما لديه من هذه الميزة.والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس قُوِّمت بالمال؛ لأنه ما نالها من فراغ، إنما جاءت نتيجة جَهْد وعمل ومجاملات للناس، احترموه لأجلها، فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير بَقِي له رصيد من الحب والمكانة بين الناس، ومن ذلك أيضًا شراء العلامة التجارية.ومعنى {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 101] فرْق بين الشافع والصديق، فالشافع لابد أن تطلب منه أن يشفع لك، أما الصديق وخاصة الحميم لا ينتظر أن تطلب منه، إنما يبادرك بالمساعدة، ووصف الصديق بأنه حميم؛ لأن الصداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع حيث كل إنسان مشغول بنفسه.فإذا لم تكُنْ الصداقة داخلة في الحميمية، فلن يسأل صديق عن صديقه، كما قالت تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37].وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطًا كثيرًا من المستشرقين الذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن الكريم، فجاء أحدهم يقول: تقولون إن القرآن معجزة في البلاغة، ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين، فإنْ كان الأول بليغًا فالآخر غير بليغ، وإنْ كان الثاني بليغًا فالأول غير بليغ، ثم يقول عن مثل هذه الآيات: إنها تكرار لا فائدة منه.ونقول له: أنت تنظر إلى المعنى في إجماله، وليس لديك الملَكة العربية التي تستقبل بها كلام الله، ولو كانت عندك هذه الملَكة لما اتهمتَ القرآن، فكل آية مما تظنه تكرارًا إنما هي تأسيس في مكانها لا تصلح إلا له.والآيتان محل الكلام عن الشفاعة في سورة البقرة، هما متفقتان في الصدر مختلفتان في العَجْز، أحدهما:{واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48].والأخرى:{واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123].إذن: فصدْر الآيتين متفق، أما عَجُز الأولى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48].وعَجُز الأخرى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123] فهما مختلفتان.وحين تتأمل صَدْرَيْ الآيتين الذي تظنه واحدًا في الآيتين تجد أنه مختلف أيضًا، نعم هو مُتحد في ظاهره، لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما: إما يعود على الشافع، وإما يعود على المشفوع له، فإنْ عاد الضمير على المشفوع له نقول له: لا نأخذ منك عدلًا، ولا تنفعك شفاعة، وإنْ عاد الضمير على الشافع نقول له: لا نقبل منك شفاعة ونُقدِّم الشفاعة أولًا ولا نأخذ منك عدلًا.إذن: ليس في الآيتين تكرار كما تظنون، فكلٌّ منهما يحمل معنى لا تؤديه الآية الأخرى.وقد أوضحنا هذه المسألة أيضًا في قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31].والأخرى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} [الأنعام: 151].فصدْرا الآيتين مختلف، وكذلك العَجْز مختلف، فعَجُز الأولى: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31].وعَجُز الأخرى: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151].وحين نتأمل الآيتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها، وليس فيهما تكرار كما يظن البعض.ففي الآية الأولى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] إذن: فالفقر غير موجود، والأب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الأولاد، فهو مشغول برزق الولد، لا برزقه هو؛ لأنه غني غير محتاج؛ لذلك قدَّم الأولاد في عَجُز الآية، كأنه يقول للأب: اطمئن فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أولًا، وسوف تُرزَق أنت أيضاَ معهم.أما الآية الأخرى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} [الأنعام: 151] فالفقر في هذه الحالة موجود فعلًا، وشُغل الأب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده؛ لذلك قال في عَجُز الآية: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] فقدَّمهم على الأولاد.إذن: لكل آية معناها الذي لا تؤديه عنها الآية الأخرى.ثم يقول الحق سبحانه عنهم أنهم قالوا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} معنى: {كَرَّةً} [الشعراء: 102] أي: عودة إلى الدنيا ورجعة {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 102] أي: نستأنف حياة جديدة، فنؤمن بالله ونطيعه، ونستقيم على منهجه، ولا نقف هذا الموقف.وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة، يقول تعالى: {حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99- 100].يعني: {كَلاَّ} [المؤمنون: 100] لن يعودوا مرة أخرى، وما هي إلا كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون النجاة بها، لكن هيهات فبينهم وبين الدنيا برزخٌ يعزلهم عنها، ويمنعهم العودة إليها، وسوف يظل هذا البرزخ إلى يوم يُبعثون.وفي أية أخرى حول هذا المعنى يُرقِّي الحق تبارك وتعالى المسألة من موقف الموت إلى موقف القيامة، فيقول سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 27].وهذا كَذِب منهم وقَوْل باللسان لا يوافقه العمل؛ لذلك ردَّ الحق تبارك وتعالى عليهم بقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} الآية: هي الأمر العجيب الملفت للنظر، وما كان ينبغي أنْ يمرَّ على العقول بدون تأمّل واعتبار {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 103] رغم أن هذه الآيات ظاهرة واضحة، ومع ذلك كان أكثرهم غير مؤمنين.{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)} أي: مع كونهم لم يؤمن أكثرهم، فالله تعالى هو العزيز الذي لا يُغلَب، إنما يغلِب، ومع عِزّته تعالى فهو رحيم بعباده يفتح باب التوبة لمن تاب. اهـ.
|